ولهذا لا يجوز للمسلم أن يكون منصرفًا عن الغاية التي خلقه الله تعالى لأجلها في هذه الدنيا، بحيث يكون الأمر الذي يهتم به -وهو الأمر الأعظم والهدف الأكبر عنده- هو أن يعمر دنياه، أن يبني كذا أو أن يحصّل كذا من الأموال.
وكذلك لا يجوز للشخص أن يكون اهتمامه في الدنيا هو تحصيل الجاه والسلطان؛ لأن واجبه هو أن يهتم لأمر آخرته؛ فهذا هو الشيء الذي يستقبله بعد مماته ويبقى فيه.
ولهـذا جـاء في الحديث الذي رواه البخـاري (6416)وغيره عـن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه قال: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ».
فلا يجوز للمرء أن يكون منصرفًا عن عبادة الله وإخلاص الدين لله إلى تحصيل المال والجاه؛ بل عليه أن يكون حريصًا على إصلاح آخرته، والذي سيحرص على إصلاح آخرته فليعلم أن منهج إصلاح الآخرة فيه إصلاح الدنيا.
فالذي يستقيم على منهاج الله الذي يرجى به الثواب من الله، وتطلب به جنة الله، ويطلب به رضا الله؛ فإنه يكون في هذه الدنيا على سبيل الاستقامة والسداد والتوفيق، ويكون قد أصاب سبيل السعادة في الدنيا والآخرة.
أما الذي انصرف عن هذا؛ فإنه يكون بقدر انصرافه سائرًا في طريق البعد عن الله، وطريق الشقاء والضلال والفساد ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الذي ينصرف عن الإخلاص لله لا يعمل لآخرته؛ بل إنما يعمل لدنياه، ونحن قد أمرنا بالعمل للآخرة، والعمل للآخرة يقتضي الحرص على نصر الدين، وعلى إعلاء كلمة الله، وعلى الجهاد في سبيل الله، إن لم يكن بالسيف والسنان فبالحجة والبيان والدعوة والبرهان، من كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
أما الذي يستجيب للشيطان فيما دعاه إليه من ترك الإخلاص لله؛ بل ويحرص على أن يكون مريدًا بأعماله الدينية الدنيا هذا يكون واقعًا في الشرك(1)، إن لم يكن واقعًا في الشرك الأكبر فعلى الأقل في شرك أصغر، ويخشى عليه الخطر الشديد.
ويأبى الشيطان إلا أن تكون طالبًا بعملك الديني الذي تتقرب به إلى الله مالًا أو جاهًا، وحتى لو كنت في أصل أمرك وفكرك وعزمك ونيتك إنما تريد الله تعالى وتريد الآخرة؛ فإن الشيطان يأتيك ويوسوس لك، ولا يزال بك حتى يصرفك ويحرفك عن الصراط المستقيم، إلى طريق مَنْ عقابهم عند الله العذاب الأليم.
والشيطان لا يزال بك حتى يكون مدخلًا عليك الدخل، وإن لم يفسد عليك العمل كله فإنه يحاول أن يفسد عليك منه ما يستطيع.
وهذا مما لا ينتبه إليه -للأسف- أكثر الناس، فأكثر الناس يعمل العمل ولا ينتبه إلى أنه يمكن أن يختل عليه منه ما يختل، ويمكن أن يفسد عليه منه ما يفسد، ولا ينتبه أيضًا إلى أنه قد يعمل العمل ثم يحبط الله تعالى عمله بخبث طويته وفساد نيته.
فما بالك بذاك؛ الذي هو كهؤلاء(2) الذين أرادوا إشهار أنفسهم، وإبلاغ المشايخ أنهم أصحاب كذا وأصحاب كذا، تجده مُوَطنًا الأمر من أصله على أنه طالب شهرة.
يا أخي لو كنت عالمًا عاملًا صوّامًا قوّامًا محيطًا بما لم يحط به أحد من أهل زمانك من العلوم؛ لكان مذمومًا لك طلب الشهرة، ولكان مذمومًا في حقك طلب الجاه.
فما بالك إذا كان الذي يطلب هذه الشهرة، ويحرص عليها، ويديم السعي في سبيل تحصيلها، وأن يلتفت الناس إليه، وأن تنصرف وجوه الناس إليه، وأن يقول الناس عنه، وأن يثني الناس عليه، ما بالك إذا كان جاهلًا، عنده أخلاق ذميمة، وأحوال خسيسة، وعنده خراب يباب في كثير من الأبواب، كيف يكون الأمر؟!
و«بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»(3) و«مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ»(4) ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والمرء لا ينبغي له أن يغتر بناس تجمعوا هنا أو هناك، لاسيما في مثل مصر التي يكثر الناس فيها -نسأل الله أن يجعل كثرتهم في خير وصلاح- فإذا ما وجد شخص يتكلم بأي كلام، حتى لو كان كلامه يشبه كلام العجم؛ لضعفه وما فيه من الركاكة، ولجهل صاحبه، وعدم تمكنه من أي شيء، لا في علوم الشريعة، ولا في علوم العربية، ولا في غيرها، فإنك تجد ناسًا يلتفتون إليه، تجد ناسًا يستمعون إليه، خصوصًا إذا كان يحسن الحركات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إذا ما وجد الشر؛ فإن الشيطان يحرص على أن يعطف الناس على هذا المنهاج الشرير، أو على هذا الشخص الشرير، وأن يُقْبِل بقلوبهم إليه؛ لأنه يعلم أن في وجود أمثال هؤلاء الجهلة الأشرار -الذين يطلبون الدنيا بتلك السبل المعوجة المنحرفة باسم الدين- وفي كثرتهم تشويهًا وتضليلًا وتفريقًا وتمزيقًا وشرورًا كثيرة على الإسلام والمسلمين.
وخصوصًا على أهل السنة والجماعة، الذين ما زال منذ قرون يتاجر باسمهم كثير من الناس، وما الأشعرية والماتريدية وعموم الفرق الحزبية الكثيرة عنا ببعيد ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن ينصر الإسلام والسنة وأهلهما، وأن يجعلنا من أهلهما، ونسأله -سبحانه وتعالى- أن يخذل الكفر والبدعة وأهلهما، وألا يجعلنا من أهلهما، إنه ولي ذلك والقادر عليه، ولا حول ولا قوة إلا به.